كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما لم يقل أو من ملكت لأنه اجتمع في السرية وصفان: الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع {فمن ابتغى} حدًا {وراء ذلك} الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما الإماء من الإماء وكفى به حدًا فسيحًا {فأولئك هم} الكاملون في العدوان المتناهون فيه.
قيل: لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح. ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء: 12] ولورثت منه لقوله: {ولهن الربع} [النساء: 12] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع الحرث، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله «لا صلاة إلا بطهور» «ولا نكاح إلا بولي» لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤمتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية. ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها، وقد مر في تفسير قوله: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] وقوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله: {حافظوا على الصلوات} [البقرة: 238] وذلك في البقرة وصفوا أولًا بالخشوع في صلاتهم وآخرًا بالمداومة عليها وبمراقبة أعداها وأوقاتها فرائض كانت أو سننًا، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان.
{أولئك هم الوارثون} الأحقاء بأن يسموا ورّاثًا دون من عداهم ممن يرث مالًا فانيًا أو متاعًا قليلًا أو ممن يدخل الجنة سواهم كالأطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور. ثم بين الموروث بقوله: {الذين يرثون الفردوس} وقد سبق معنى هذه الوراثة في الأعراف في قوله: {ونودوا أن تلكموا الجنة أورثتموها} [الأعراف: 43] قال الفقهاء: لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول.
وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير طفره، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين، ولكن كل افردوس لا يكون ميراثًا بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أنهم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنت الضمير في قوله: {هم فيها خالدون} وقيل: إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيهًا بالميراث. والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر. وروى أبو موسى الشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أه قال «الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار» وعن أبي أماة مرفوعًا «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها: تكلمي. فقالت: قد افلح المؤمنون» ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت: حفظك الله كما حافظت على وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت: ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها» قالت العلماء: أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله: {قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] وكذا الكلام في كلام طوبى. وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك إن إحسانك إلى ينطق بالشكر.
ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع: الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد آدم لأنه استل من الطين، والكناية في {جعلناه} راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون: الإنسان هاهنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منيًا في أوعيته، ويحتمل أن يقال: إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأرض والماء المسمى بالسلالة.
ثم إن تلك السلالة تصير منيًا وعلى هذا فكلتا لفظي من للابتداء. قال في الكشاف: الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط. والقرار المستقر اراد به الرحم. وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك طريق سائر. وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج. ومعنى ثم في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله: {ثم أنشأناه خلقًا آخر} اي خلقًا مباينًا للخلق الأول حيث جعله حيوانًا وكان جمادًا إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة اربعينات. ومن هنا ذهب ابو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} ويروى هذا القول أيضًا عن مجاهد وابن عمر {فتبارك الله} كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالى لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه. ومعنى {أحسن الخالقين} أحسن المقدّرين تقديرًا فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة: في الاية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقًا للكفر والمعاصي. وأجيب بأن الحسن هاهنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا: لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله: {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات. روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اكتب هكذا نزلت». فقال عبد الله: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلى فلحق بمك كافرًا ثم اسلم يوم الفتح. وروي عن عمر ايضًا سبق لسانه بقوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} قبل أن ينزل.
واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به.
سؤال: ما الحكمة في الموت وهلا وصل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتيًا بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وابعد عن صورة المبايعة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر. ويمكن إن يقال: بل الآية تتضمنها فإنها ايضًا من جنس الإعادة. النوع الثاني: الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج: سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال على بن عيسى: لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل: لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها {وما كنا عن الخلق} أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا {غافلين} عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي اردنا كونها عليه نظيره {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3] النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا: إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى {بقدر} بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع، او بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مددًا للينابيع والآبار. وقيل: أراد إثابته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة: سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. {وإنا على ذهاب به لقادرون} أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على ايّ وجه اراد به، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر.
ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعًا، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين: التفكه والتطعم.
وجوز في الكشاف أن يكون قوله: {ومنها تأكلون} من قولهم فلان يأكل من حرفة كذا كأنه قال: ومن هذه الجنان وجوه ارزاقكم ومعايشكم ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعًا. قال جار الله: طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافًا إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون المجموع اسمًا للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ {سيناء} بفتح السين فهو كصحراء، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون الفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف {بالدهن} في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت: لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت، وكذا يحتمل أن تكون الباء في {بالدهن} للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعديًا. قال المفسرون: إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله: {وإن لكم في الأنعام لعبرة} قد مر في النحل. ولعل القصد بالأنعام ههنا. الإِبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولانه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة. {فواكه كثيرة} بالجمع بخلاف ما في الزخرف لتناسب قوله هنا {منافع كثيرة} لتناسب قوله: {جنات} كما قال هنالك {فاكهة} [الرحمن: 11] على التوحيد لتناسب قوله: {تلك الجنة} [مريم: 63] وإنما قال هنا في الموضعين {ومنها تأكلون} بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الاية: منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. وأعلم أنه لما أنجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من الهم صنعتها، وفيه أيضًا تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله: {ما لكم من إله غيره} جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى {أفلا تتقون} أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية. ثم حكى الله سبحانه عنهم شبهًا: الأولى قولهم {ما هذا إلا بشر مثلكم} إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله: {يريد أن يتفضل عليكم} أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره {وتكون لكما الكبرياء في الأرض} [يونس: 78] ويتأكد الاحتمال والأول بالشبهة الثالثة وهي قوله: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم. وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرن في حم السجدة {قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة} [فصلت: 14] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله: {ذلك رب العالمين} [فصلت: 9] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقادًا وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد {ما سمعنا بهذا} أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى الله عليه وسلم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهرًا بأنه أرجح الناس عقلًا ورزانة. قال جار الله: الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم {فتربصوا به حتى حين} أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالًا على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوام: إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلامًا مستأنفًا وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبيًا حقًا فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه، وإن كان كاذبًا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة {ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلًا} [الأنعام: 9] {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكًا رسولًا} [